بقلم / عصام عبد الله الشماسي

4/9/1420 هـ

 

في عتمة من دامس الظلام المتصاعد من مدلهمات المادة،  والتي تلقي  بظلالها الكثيفة على سماء الفضيلة لتحيل مشرق الآفاق إلى دياجٍ من تناقضات الحياة ومفارقاتها وفي صورة من احتدام صراع بين المادة والروح ؛  في خضم هذا الواقع تلوح وتبدو في حالك الأفق نجوم وضاءة، نجوم ترسل أشعتها الهادية الحانية الممزقة لكل أستار الظلام،  نجوم تعيش في تحد أزلي وتمرد أبدي على كل قوى الضباب المتلاشي أمام وهجها وإشعاعها الوقاد والذي لا نفاذ لزيته وهل يتضاءل نور يستمد بقاءة من قبسة القداسة  الإلهية التي لا تخبو ؟!،  وهل هناك من خوف من نهاية محسومة الظفر بين طرفي الصراع ؟!،  وهل تصح المقايسة بين روح ومادة ؟!،  فلقد هلك خزان المال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر أجسامهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة.

فعذراً ايها الشيخ المكلل بالجلال عذراً أيها المحاط بالمجد،  عذراً أيها الخاشع البكاء أن لم اقف منك موقف المؤبن، وهل لي أن أؤبن القداسة ؟!، أو اندب الطهر ؟!، أو ارثي الإيمان وهل يبقى هناك معنى للرثاء ؟!، وأنت لا تجد من تفسير لهذا التجاوب وتلك الأصداء التي دوت في قلوب المؤمنين عندما صك مسامعهم  نبأ رحيلك فهرعوا ذاهلين قد امضهم مرير الفراق لن نجد من تفسير لهذا سوى ما تبوأته من سامق المكانة وعظيم المرتبة التي تربعت بهما في قلوب شعبك ومريديك من أهل الإيمان والصلاح.

ولم تكن هذه المكانة  وليدة سلطان ولا تلك المرتبة متأتية من عشيرة وإنما هي عزة وهيبة تمنحها السماء لمن استطاع أن يخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعته.

إن السر الذي يقف وراء هذه الروعة وهاتيك الجلالة  والهيبة، وذلك الوقار ليس العلم وحده، وان كان هو منه على وفرة، بل إن هناك مقومات أخر هي التي أسهمت في صياغة هذا الأنموذج الفذ لرجال الله المخلصين الصادقين، نعم إنني أتعمد  أن اقترف بحقك - أيها الشيخ الجليل - هذا الذنب  فأتجاوز الحديث عنك كعالم أضنى جسده واجهد فكره، وسلخ من عمره أعواماً طوالاً لنيل معاليه، لأن الروعة والجلالة ليست وليدة هذا فحسب بل هي وليدة نفس هي من الطهر بمكان  يغار منها ماء السماء نفس قد عانقت الإيمان حتى غدا جزءاً لا يتجزأ ولا ينفك عنها في كل موقع من مواقع حياته وفي كل جنبة من جنبات سيرته الناصعة الوضاءة المشرقة.

فلو أزحت الستار عن مشاهد من حياته التي تعبق باشذاء المعالي والسمو لرأيته في صورة فاتنة الرؤى وهوعاكف في محرابه الذي هام به عشقاً، والذي يتناسى فيه وجوده عندما يأنس بلذيذ المناجاة التي تنبعث من شفتيه تراتيل وترانيم قدس يرطب بها جفاف الأجواء لينتقل بها إلى آفاق الروح التي تجتذب إليها تلكم النفوس الزكية ولم يكن ليستأثر بهذه اللذة دونما أن يشرك الآخرين فيها بل كان يطعم كل من يتصل به أو له به علقة من هذا الزاد الذي أشاعه في بيوتات ذكره من مواظبة على الأوراد التي تطري ما جف من نبع الروح.

وإذا ما وقفت على مشهد آخر من تجليات عميق الإيمان الذي تمازج مع لحمه ودمه فسيبهرك منه صورة الزهد الذي لم يكن دافعه عجز بل هو زهد القادر على الترف، وبإمكانك أن تتأمل في قسمات ذلك المحيا النوراني لتستل منه ما حواه من هذه المعاني، هذا ولك في بيته العتيق ما يفصح عن هاتيك الروحية العالية وفي ذات الصورة ستطالعك  تلك الحيطة التي يتخذها في سائر تعاملاته وخصوصا ما يرتبط منها بحقوق الناس والتي تكشف عن مسلك لا يطيقه إلا من أدرك بان لا نجاة إلا بسلوك دروب الاحتياط.

ولا أظنك ستنعتق من أسر ذلك المشهد الرائع الذي اصطبغت به سيرته العبقة في تلك اللوحة النادرة التي رسمها بإحكام وثاق مع العروة التي لا انفصام لها فأي ارتباط بالثقلين هذا الذي يجعله رغم شيخوخته الواهنة وجسده المنهك بأعباء السنين المثقل بحوادث الدهر يتخطى عتبات المآتم مآتم آل الله ومجالس الذكر، حتى وكأنها الوقود الذي يدفع نبضه إلى الحياة، وأي طاقة هذه التي لا تسأم من عقد مجالس الحسين وهو في أشد الظروف الصحية حرجا. وأي طموح هذا الذي يجعله مع ما تراه من ضعف بنية جسدية أن يستل سيفاً في صبائح الجمع يلوحه بأنامله والشوق يملأ جنانه والحلم يأخذ بكيانه في أن يحظى بنصرة بقية الله نصرة العدالة وإمامها الظافر فما أروعك من مشهد إيماني يجسد عمق الارتباط والانجذاب إلى آل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

وهكذا تتابع كل مشاهد حياته لتشكل سلسلة ذهبية في بريقها أو عقداً ماسيا بما فيه من صفاء ونقاء وشفافية ورواء وهكذا هي حياة الخالدين السائرين في دروب الله الذين تقشعت عن بصائرهم غشاوات المتاهات التى يدلهم بها من لم يهتد إلى سلوك محلولب الدرب.

نعم هكذا تتداعى لك مشاهد العظمة حتى تقف على آخر فصل منها والذي امتزج بالأسى حيث ستمتلىء نفسك خشوعا حين رسم لنا في هذه اللوحة صورة من صور العزة و وضع بين أيدينا سفره الخالد لنقرأه على مهل لنقرأه قراءة استلهام، بل لايفوته وهو في لحظات الوداع الآخير أن يطل علينا من سريره المهيب الذي حامت حوله القلوب الظامئة قبل أن تزاحم عليه الاكف الثاكلة لا يفوته في تلك اللحظات أن ينقش في عمق وعينا بأن العاقبة لن تكون إلا للمتقين.