بقلم/ د. علي حسن آل جامع

حرر في 3/9/ 1420هـ

 بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين..

إخواني المؤمنين أحببت أن يكون لي شرف المشاركة في تأبين شيخنا الراحل بكلمة عنونتها بـ ( ارتفاع البركات ) في مثل هذه الفاجعة الأليمة التي ألمت بهذا البلد وأهله بل تعدت ذلك إلى أصقاع كثيرة من مجتمعات الموالين لأهل البيت (ع). إن فقيدنا الغالي صاحب الفضيلة حليف الزهد و التقوى شيخنا المنصور طيب الله ثراه يعتبر إحدى البركات التي من بها الله علينا في هذه البلاد، إن وجوده كان نورًا في سمائنا الحالكة بالظلام، وكانت أنفاسه الطيبة وسيرته العطرة وكلماته المؤثرة  بمثابة البلسم الناجع لأدوائنا النفسية التي أخذت تتفاقم يوماً بعد يوم في تسارع متزايد حتى لم يعد المداوي قادراً على متابعتها وعلاجها.

إني ومن هو في سني عايشنا الفترة الأولى التي أعقبت مجيئ الشيخ من مهاجره في النجف الأشرف على مشرفه آلاف التحية والسلام - والذي طالما كنا نسمع أن الشيخ كان يتمنى أن يدفن إلى جواره متمثلاً بقول الشاعر :

إذا مت فادفـني إلى جنب حيـدر                  أبـي شــبر أكـرم به وشبـير

ولكن مشيئة الباري فوق كل مشيئة.

وما إن عاد الشيخ منصور قدس الله نفسه الشريفة إلى موطنه وأرضه حتى استقبلته القلوب والأبدان بالحب والتقديس وبدأنا نتعرف على الشيخ شيئاً فشيئاً.. لم نكن نعرفه من قبـل وأتكلم عمن في سني أو أصغر مني رأينا فيه ذلك البدن الناحل الذي لم يتغير على مر السنين، ومع ذلك فإن وجهه يشع نـوراً، هيئته، مشيته، جلستـه، تذكـرك بالآخرة.. مثال العالم الرباني.. إذا جلست بين يديه فلاتود أن تفارقه.. تأخذ في لثم يده وجبهته وتسأله الدعاء، أو تسأله عن مسألة دينية.. وكأنك تريد أن تنفرد به وحدك ولكن الناس وراءك صفاً كلٌّ يريد أن يأخذ نصيبه من الرحمة.. دعني أرجع بالذكريات إلى مسجد الشيخ علي بن يعقوب حيث بدأ صلاة الجماعة.. الذكر طويل.. الركوع طويل.. الرفع من الركوع لايقتصر على سمع الله لمن حمده.. السجود طويل.. ضج المؤمنون.. إنهم يحبون الصلاة وراء الشيخ الجليل.. لكن الشيخ معهم بدناً وليس معهم روحاً.. هو مِن عالمهم وزمانهم وهو مختلف عنهم.. خفف صلاتك ياشيخ.. الجواب.. أنا أصلي بصلاة أضعفكم وأنا أضعفكم.. لم يقتنع الناس بذلك.. شيخ جاوز الستين كيف تكون له هذه القوة حين الصلاة.. لاتعجب إنها القوة الإلهية والهداية الربانية التي إذا حلت قلب امرئ (نشطت للعبادة الأعضاء ).. لكن القلب الرحيم العطوف لم يشأ أن يرهق الناس المثقلة قلوبهم بأدران الدنيا حتى كادت أن  تخور أجسادهم عن المثول أمام الخالق جل وعلا

ألا توافقونني على أن الشيخ كان بركةً في هذا الوجود.. أجل، ولكن البركة ارتفعت.. شيخنا الراحل حرمتني من البركات.. شرفتني يا مولاي بخدمتك زمناً ليس بالقصير.. كنت أسعد حينما كنت تناديني بعلي بن حسن.. وحينما كنت تأمر أولادك بالاتصال بعلي بن حسن.. وشرفتني حين أذنت لي أن أمس بدنك الشريف بيدي.. كنت ترتاح حينما أضع يدي على بطنك للفحص كنت أستغل الفرصة وأقوم بتدليك بطنك كي أطيل الفحص وأنعم بالرحمة...

سوف أختصر الأيام والذكريات وأصل إ لى الأسبوع الثاني من شهر شعبان المعظم في هذه السنة.. جاءني النداء للكشف على الشيخ فهو في حالة صعبة.. وصلت قريب الظهر يوم الخميس.. ذلك الوجه النير بدت عليه آثار الضعف.. النفس ضيق.. الحالة صعبة.. اتخذت القرار أن الحالة لا يمكن معالجتها في البيت.. الكلام يخرج بصعوبة.. الذهن يعتريه الذهول في بعض الأحيان.. لكن كلمة الأخذ إلى المستشفى كانت بمثابة الصاعقة على قلبه.. رفض رفضاً قاطعاً ولم يكن بوسعنا أن نقنعه إلا بالخيرة.. وهكذا أخذناه إلى المستشفى وأدخلناه وحدة العناية القصوى.. كانت معاناته كبيرة ومعاناتنا كذلك.. أتعبناك يا شيخنا ولكنك أهل العفو فاعف عنا.. كنا نريد أن يطول بقاؤك بين أظهرنا لكن إرادة الله فوق إرادتنا.. بركاتك حرمناها.. أنوارك فقدناها.. الغرفة مظلمة.. البيت مظلم.. القطيف مظلمة لفقدك يا مولاي..

هل حرمنا من بركتك لأننا غيرنا وبدلنا.. ولم نعد محل عناية الرب الجليل والنبي وآله الكرام (ص).. أجِل النظر في شوارع القطيف لترى كيف تبدل الحال.. المنكر ظاهر.. تجاهر بالفسوق.. لم يعد بالإمكان الأمر بالمعروف.. لم تعد شوارعاً للنجف الصغرى.. تعال إلى مجتمعات النساء وعاين ماذا جرى على الصون والعفاف.. اتجه إلى أماكن العمل أو إلى الأسواق لتتعرف عن قرب على ما دهانا.. أبناؤنا.. بناتنا لقد تغيروا وغيروا..

أفلا نستحق رفع البركات.. بل لا أستبعد نزول النقمات ألا فلنستيقظ قبل فوات الأوان.. فالموت يخفق بأجنحته عند الرؤوس.. وحينها لا ينفع الإستيقاظ.

هدانا الله وإياكم إلى سواء السبيل وثبتنا الله وإياكم على الصراط المستقيم ولاية محمد وآل بيته الطيبين الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين.  وتغمد مولانا الراحل بواسع رحمته وصب على ضريحه شآبيب رضوانه.

وفي الختام نقرأ الفاتحة لروح الفقيد الغالي وأرواح العلماء والمؤمنين والمؤمنات مسبوقة بالصلوات على محمد وآله الطاهرين.